شرح حديث (إن الله تجاوز لأمتي ما حدثت به أنفسها..)
انت في الصفحة 2 من صفحتين
حديث النفس لغلبتها على الناس، ولا على ميل الطبع إلى الحسنات والسيئات، إذ لا تكليف بما يشق اجتنابه مشقة فادحة، ولا بما لا يطاق فعله ولا تركه اهـ.
ونقل عنه السيوطي في حاشيته على سنن النسائي أنه قال: حديث النفس الذي يمكن رفعه لكن في دفعه مشقة لا إثم فيه؛ لهذا الحديث. وهذا عام في جميع حديث النفس اهـ.
وبهذا يتبين للسائل أن هذا الحديث يشمل وسوسة الشيطان وحديث النفس وجميع الخواطر الواردة على القلب، مهما كان فحشها وشناعتها، وقد جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إن أحدنا يجد في نفسه يعرض بالشيء لأن يكون حممة أحب إليه من أن يتكلم به ؟ فقال صلى الله عليه وسلم: الله أكبر الله أكبر الله أكبر، الحمد لله الذي رد كيده إلى الوسوسة. رواه أبو داود وأحمد، وصححه الألباني.
وهذا العفو عن مثل هذه الخواطر وحديث النفس يظل باقيا ما دامت في تلك الحدود كما سبق عن النووي في قوله: الخواطر وحديث النفس إذا لم يستقر ويستمر عليه صاحبه فمعفو عنه.. اهـ.
ونقل السيوطي عن العز أنه قال: الذي في النفس على قسمين: وسوسة، وعزائم. فالوسوسة هي حديث النفس وهو المتجاوز عنه فقط، وأما العزائم فكلها مكلف بها اهـ.
وقد سبق لنا بيان الفرق بين الشك والوسوسة في الفتوى رقم: 120582.
وأما السؤال عن صفة العمل المنوه عنها في الحديث، على تعبير السائل، فجوابه: أن عمل كل شيء بحسبه، فالقلب عمله الاعتقاد والعزم، واللسان عمله النطق بالكلام، والجوارح عملها معروف، ويوضح المراد به قول النبي صلى الله عليه وسلم: كتب على ابن آدم نصيبه من الژنا مدرك ذلك لا محالة، فالعينان زناهما النظر، والأذنان زناهما الاستماع، واللسان زناه الكلام، واليد زناها البطش، والرجل زناها الخطا، والقلب يهوى ويتمنى، ويصدق ذلك الڤرج ويكذبه. متفق عليه.
فبيَّن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث: العمل الذي تؤاخذ عليه كل جارحة من الجوارح، وأنه بحسب وظيفتها.
وإذا تبين هذا، فالذي يعني السائل بالأساس هنا: أن يعلم أن الوسوسة إذا لم تجد تقبلا واستقرارا في القلب، ولم ينطق اللسان ولم تتحرك الجوارح بما يعني ثبات هذا الوارد، فالعفو قائم بفضل الله.
وأما ما ذكره السائل الكريم من تغير ملامح الوجه أو وضع اليد على الفم أو التأفف، فهذا كله يدل على كراهته ونفوره وانزعاج قلبه من هذه الخواطر والوساوس الشيطانية، وهذا بدوره يدل على صحة الاعتقاد وقوة الإيمان، لا العكس كما يتصوره السائل، فقد جاء ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فسألوه: إنا نجد في أنفسنا ما يتعاظم أحدنا أن يتكلم به؟ قال: وقد وجدتموه؟ قالوا: نعم، قال: ذاك صريح الإيمان. رواه مسلم.
قال النووي: معناه: استعظامكم الكلام به هو صريح الإيمان، فإن استعظام هذا وشدة الخۏف منه، ومن النطق به، فضلا عن اعتقاده، إنما يكون لمن استكمل الإيمان استكمالا محققا وانتفت عنه الريبة والشكوك اهـ. وراجع في ذلك الفتويين رقم: 7950، 12300.
ولذلك، فإنا نوصي السائل بأن يطرح هذه الأفكار عن نفسه ولا يسترسل معها، ولا يجعل للشيطان عليه سبيلا، فإن الوسوسة مرض شديد وداء عضال، والاسترسال معها يوقع المرء في الحيرة والشك المړضي، والضيق والحرج الشرعي.
والله أعلم.